الحمد لله رب العالمين ،والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه .أما بعد : فهذا البحث المختصر أذكر فيه مسألتين ثم أشفعه بذكر الأضرار من الجهة الطبية:المسألة الأولى :حكم الخمر في الشريعة الإسلامية . المسألة الثانية :مسألة نجاسة الخمروالكحول . فأما المسألة الأولى : فلا شك أن الخمر محرمة بالإجماع فلا يجوز شربها ولا التعامل بها ببيع أو شراء أو اقتناء أو إهداء أو غير ذلك.وهي كبيرة من كبائر الذنوب . قال الله تَعَالَى : { يَسْأَلُونَك عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا }قال ابن حجر الهيتمي في الزواجر: وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَخْمُرُ الْعَقْلَ : أَيْ تَسْتُرُهُ .انتهى وقال الله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } وروى البخاري ومسلم ـ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ : { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } وَفِي الْحَدِيثِ : { مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ } قال الإمام ابن حجر الهيتمي رحمه الله تعالى :اما شُرْبُ مَا يُسْكِرُ بِالْفِعْلِ فَهُوَ حَرَامٌ وَفِسْقٌ بِالْإِجْمَاعِ ، وَكَذَا قَلِيلُ عَصِيرِ الْعِنَبِ أَوْ الرُّطَبِ إذَا اشْتَدَّ وَغَلَا مِنْ غَيْرِ عَمَلِ النَّارِ فِيهِ فَهُوَ حَرَامٌ وَنَجِسٌ إجْمَاعًا يُحَدُّ شَارِبُهُ وَيُفَسَّقُ بَلْ وَيُكَفَّرُ إنْ اسْتَحَلَّهُ.انتهى وهو قد يتخمر بانتهاء تاريخ الصلاحية ،أو بتركه في مكان حار .فإذا رأى الإنسان هذا التغير في طعمه ،أو ريحه الدال على تخمره فيحرم عليه تناوله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { اجْتَنِبُوا الْخَمْرَ فَإِنَّهَا أُمُّ الْخَبَائِثِ } وقال في الحديث{ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَمْرِ عَشْرَةً : عَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَشَارِبَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ لَهُ وَسَاقِيَهَا وَبَائِعَهَا وَآكِلَ ثَمَنِهَا وَالْمُشْتَرِيَ لَهَا وَالْمُشْتَرَى لَهُ }رواه ابن ماجة والترمذي واللفظ له وقال حسن غريب وقال المنذري رواته ثقات. وقال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم { ثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ : مُدْمِنُ الْخَمْرِ ، وَقَاطِعُ الرَّحِمِ ، وَمُصَدِّقٌ بِالسِّحْرِ ، وَمَنْ مَاتَ مُدْمِنُ الْخَمْرِ سَقَاهُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا مِنْ نَهْرِ الْغُوطَةِ . قِيلَ : وَمَا نَهْرُ الْغُوطَةِ ؟ قَالَ : نَهْرٌ يَجْرِي مِنْ فُرُوجِ الْمُومِسَاتِ - أَيْ الزَّوَانِي - يُؤْذِي أَهْلَ النَّارِ رِيحُ فُرُوجِهِمْ } رواه الإمام أحمد وأبو يعلى وابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه فهذا ما يتعلق بالمسألة الأولى.
أجمع العلماء على أن الخمر نجسة نجاسة معنوية . وأطبقت المذاهب الأربعة وعموم الأمة على أنها أيضاً نجسة نجاسة حسية ، يحب التنزة منها وغسل ما أصابته من ثوب أو بدن،لقوله تعالى (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ والرجس هو النجس، ويدل على ذلك أدلة منها قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} ولحم الخنزير نجس نجاسة حسية بالإجماع.ولحديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم، أمر أبا طلحة أن ينادي إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية فإنها رجس.فالرجس في الآية والحديث هوالنجس نجاسة حسية، فكذلك في آية الخمر رجس نجس نجاسة حسية. كما أنه يقول الله تعالى في الخمر: {فاجتنبوه}، وهذا الاجتناب مطلق لم يقل: "اجتنبوه شرباً" أو "استعمالاً" أو ما أشبه ذلك، فالله أمر أمراً مطلقاً بالاجتناب .
وهنا نقول عن علماء الأمة في نجاسة المسكرات:قال الإمام الكاساني الحنفي رحمه الله في كتابه بدائع الصنائع في كتب الأشربة ما نصه: وأما بيان أحكام هذه الأشربة : - أما الخمر فيتعلق بها أحكام ؛ ( منها ) أنه يحرم شرب قليلها وكثيرها....إلى أن قال: (ومنها ) أنها نجسة غليظة حتى لو أصاب ثوباً أكثر من قدر الدرهم يمنع جواز الصلاة لأن الله تبارك وتعالى سماها رجساً في كتابه الكريم بقوله { رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه } .انتهى وقال الحافظ ابن عبد البر المالكي رحمه الله (( وقد أجمع علماء المسلمين في كل عصر وبكل مصر فيما بلغنا وصح عندنا أن عصير العنب إذا رمى الزبد وهدأ وأسكر الكثير منه والقليل أنه خمر وأنه مادام على حاله تلك حرام كالميتة والدم ولحكم الخنزير رجس نجس كالبول إلا ما روي عن ربيعة في نقط الخمر لم أرى لذكره وجهاً لأنه خلاف إجماعهم.انتهى انظركتاب التمهيد 1/245
وقال الحافظ القرطبي في جامعه 6/288 (( فهم الجمهور من تحريم الخمر واستخباث الشرع لها وإطلاق الرجس عليها والأمر باجتنابها الحكم بنجاستها وخالفهم في ذلك ربيعة الرأي والليث بن سعد والمزني صاحب الشافعي وبعض المتأخرين البغدادين والقرويين فرأوا أنها طاهرة وأن المحرم إنما هو شربها.
وقال الإمام الماوردي الشافعي في الحاوي في باب الصلاة بالنجاسة ما نصه: فأما الخمر فنجس بالاستحالة ، وهو إجماع الصحابة رضي الله عنهم . وقال الحسن ليس بنجس ، لأن الله سبحانه أعده في الجنة لخلقه ، فقال تعالى : وأنهار من خمر لذة للشاربين . والله تعالى لا يعد لخلقه نجسا . والدلالة عليه مع إجماع الصحابة والتابعين قوله تعالى : ((إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان)) [ المائدة : ] .والأرجاس : أنجاس إلا ما قامت الدلالة على طهارتها ، ولأنه مائع ورد الشرع بإراقته ، فوجب أن يكون نجسا كالسمن الذائب إذا وقعت فيه فأرة فأما الآية فتقتضي طهارة الخمر في الجنة ، وهذا مسلم ، وإنما الخلاف معه في طهارتها ونجاستها في الدنيا ، وغير منكر أن تكون في الدنيا نجسة ويقلب الله سبحانه وتعالى عينها في الآخرة ، ويغير حكمها .انتهى وقال الإمام النووي في المجموع شرح المهذب في كتاب الطهارة باب إزالة النجاسة ما نصه( الخمر نجس عندنا ـ أي عند الشافعية ـ، وعند مالك وأبي حنيفة وأحمد وسائر العلماء إلا ما حكاه القاضي أبو الطيب وغيره عن ربيعة شيخ مالك وداود أنهما قالا : هي طاهرة وإن كانت محرمة كالسم الذي هو نبات وكالحشيش المسكر ، ونقل الشيخ أبو حامد ـ الغزالي ـ الإجماع على نجاستها ، واحتج أصحابنا بالآية الكريمة ، قالوا : ولا يضر قرن الميسر والأنصاب والأزلام بها مع أن هذه الأشياء طاهرة ؛ لأن هذه الثلاثة خرجت بالإجماع فبقيت الخمر على مقتضى الكلام . ولا يظهر من الآية دلالة ظاهرة ; لأن الرجس عند أهل اللغة القذر ولا يلزم من ذلك النجاسة ، وكذا الأمر بالاجتناب لا يلزم منه النجاسة وقول المصنف ـ الإمام الشيرازي صاحب المهذب ـ: ولأنه يحرم تناوله من غير ضرر فكان نجسا كالدم لا دلالة فيه لوجهين . أحدهما : أنه منتقض بالمني والمخاط وغيرهما كما ذكرنا قريبا . والثاني : أن العلة في منع تناولهما مختلفة فلا يصح القياس ; لأن المنع من الدم لكونه مستخبثا ، والمنع من الخمر لكونها سببا للعداوة والبغضاء وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة كما صرحت به الآية الكريمة ، وأقرب ما يقال ما ذكره الغزالي أنه يحكم بنجاستها تغليظا وزجرا عنها قياساً على الكلب وما ولغ فيه والله أعلم . انتهى كلام الإمام النووي رحمه الله.
No comments:
Post a Comment